والسياسية التي أدت إلى قيام هذه الأمة الحديثة أو تلك، منذ الثورة الفرنسية حتى يومنا. يحتاج الأمر إلى تحليل التجارب القومية الحديثة، من إنكلترا إلى اليابان، لاكتشاف هذا القانون.
أبرز المشكلات النظرية في الفكر والسياسة وأشدها خطورة، في موضوعنا، تتأتى من التباس مفهوم الأصل ومفهوم الهوية، ومن خلط مفهومي الأمة والعرق أو اللغة، ومن خلط مفهومي الأمة والدين أو المذهب الديني. فمن التباس الأصل (الثابت) والهوية (الحية المتغيرة والمتحولة) تنشأ الأصولية، وتتعزز الهويات المغلقة والمتنابذة، الإثنية منها أو الدينية أو المذهبية. ومن خلط مفهومي الأمة والعرق أو اللغة تنشأ الشوفينية، ومن خلط مفهومي الأمة والمذهب الديني تنشأ المعتقدية السلفية والماضوية، التي يتماهى فيها الدين والقومية في هوية واحدة؛ وثمة خلطة مركبة من الأمة والعرق أو اللغة والمذهب الديني (السني أو الشيعي) يتعالى ضجيجها اليوم، من خلال النزاعات المذهبية والإثنية، دفاعاً عن عروبة العراق وعروبة لبنان وعروبة السودان وغيرها. الشوفينية والمعتقدية السلفية والأصولية هي مضامين الأيديولوجية القومية والأيديولوجية الإسلامية، ومضامين الخصوصية، التي يتحصن خلفها القوميون والإسلاميون في مواجهة تيارات العصر وحاجات الإصلاح.
وإذا كان التاريخ قد حكم على أوهام النقاء العرقي وعلى أسطورة تفوق عرق بعينه على بقية الأعراق، حتى باتت قضية العرق لا تطرح إلا على استحياء ملبَّسة بقضية اللغة، التي لا تزال تحظى بتقدير خاص لدى القوميين، فإن خلط مفهومي الأمة والمذهب الديني، الذي يولي اللغة العربية أهمية خاصة، بوصفها لغة الملائكة ولغة القرآن الكريم، لا يزال السمة الأبرز للفكر القومي العربي حتى يومنا، ما جعل من العلمانية وما يتصل بها من مفاهيم الحداثة وقيمها موضوع سجال لم يحسم بعد. ولا يخفى ما لهذا من أثر في تصور القوميين للدولة، وفي تصورهم للديمقراطية. فإذا نزعنا من الدولة جوهرها العلماني، الذي هو ضمانة عموميتها، لا يتبقى منها سوى سلطة فئوية حصرية (عرقية أو مذهبية) غاشمة ومستبدة. وإذا نزعنا من الديمقراطية نسغها العلماني لا يتبقى منها شيء سوى ما يسمى "الديمقراطية التوافقية"، ديمقراطية المذاهب والطوائف والإثنيات، التي لا تعدو كونها تقاسماً للسلطة والسيادة، وهدنة بين حربين أهليتين، كما هي الحال في لبنان والعراق والسودان وغيرها. أو الديمقراطية العددية، التي قوامها صندوق الاقتراع، لا حكم الشعب، وقد روجها كثيرون ممن يعتقدون أن العلمانية وافد غريب و"إشكالية زائفة لا تناسب المجتمعات العربية الإسلامية. وهذه تخفي في ثنايا نزعة مذهبية، سنية أو شيعية ضمنية، لا تلبث طويلاً حتى تصير نزعة مذهبية صريحة. ألا تريدون حكم الشعب؟ هذا هو الشعب، مسلم سني أو شيعي. لذلك تبدو الديمقراطية مرهونة بعلمنة وعي الأكثرية. دعاة الديمقراطية العددية ينسون أن مفهوم الشعب مفهوم سياسي، لا مفهوم تيولوجي، ولا مقولة إحصائية، عددية أو كمية، ويجهلون أو يتجاهلون الحد المفهومي والواقعي بين المجتمع المدنين ميدان الحرية الذاتية وميدان الحرية الدينية، وبين المجتمع السياسي العمومي، ميدان الحرية الموضوعية، التي يجسدها القانون الوضعي.
كثيراً ما تنطوي قضية اللغة عندنا على دلالات وإيحاءات عرقية ودينية، بل مذهبية، ضمنية وصريحة، إذ يعد القوميون اللغة العربية العامل الأهم في تكوين الأمة العربية، إلى جانب الإسلام الذي وحد العرب روحياً ولغوياً، ولا يعدون، مع ذلك، الذين يتكلمون العربية من غير العرب، كالكورد السوريين والعراقيين، مثلاً، أعضاء في الأمة العربية، والأمثلة كثيرة. ومنذ بدأت عملية اندماج القوميين والإسلاميين، تحت مقولة "الأمة لا تنهض إلا بجناحيها: القومي والإسلامي"[1]، صرنا نلمح ميلاً واضحاً لدى الجماعات "القومية الإسلامية"، ولا سيما جماعات "المقاومة الإسلامية"، السنية والشيعية على السواء، لإخراج العرب غير المسلمين من دائرة الأمة العربية، ولإخراج العرب المسلمين غير السنة أو غير الشيعة، بحسب المتكلم، من دائرتها أيضاً. لذلك بتنا في أمس الحاجة إلى أفكار واضحة عن الأمة تعيدها إلى نصابها التاريخي.
العرق واللغة كانا شيئاً واحداً لدى الجماعات البدائية، بما هي عائلات كبيرة أو ممتدة، وفي المنظومات العشائرية والقبلية، التي فجرتها في غير مكان عوامل عدة، من أبرزها المسيحية والإسلام، بوصفهما ديانتين عالميتين، لا تقتصر أي منهما على جماعة عرقية بعينها، ولا على جماعة لغوية بعينها، فضلاً عن مفاعيل الهجرات والحروب والفتوحات؛ فغدا مجال اللغة، منذ ذلك الحين، أوسع من مجال العرق؛ وغدا، من ثم، أضيق من مجال "الأمة"، أو الجماعة السياسية، أو أوسع منه؛ ولم تعد هنالك أي علاقة ضرورية بين اللغة والعرق، أو بين اللغة والدين، أو بين اللغة والأمة، إذ ليس هنالك من أمة حديثة نقية لغوياً أو عرقياً أو دينياً، وليس هنالك من أمة حديثة لا تمنح الأديان والمذاهب الدينية حقوقاً متساوية، وليس هناك أمة حديثة لا تمنح اللغات المختلفة حقوقاً متساوية، باستثناء امتياز إحداها في أن تكون اللغة الرسمية، ولا يخلو أن يكون في دولة لغتان رسميتان؛ فلا يستقيم اليوم أن نصف الأمة بأي صفة عرقية أو لغوية أو دينية، مثلما لا يستقيم أن نصف الدولة بأي صفة من هذه الصفات، أو بغيرها من صفات الفرد الطبيعي.
وكانت اللغة شرطاً لازماً للاجتماع البشري، ولكنها لم تعد كذلك، بحكم الهجرات والحروب والفتوحات والاحتلالات، ولا سيما الاستيطانية منها، وبحكم ما نجم عنها من تغيرات وتحولات ديمغرافية وجفرافية سياسية وثقافية هي تجليات للإرادة الفاعلة، لا لأي شيء آخر، بما في ذلك الإرادة المنفعلة. ثمة ما هو أهم من اللغة؛ إنه الإرادة، إرادة الاجتماع، التي يعبر عنها اليوم بمبدأ "حق تقرير المصير". اللغة منظومة / منظومات تاريخية، وليست منظومة طبيعية، كالمنظومة النسلية أو السلالية، التي باتت أجدر بعلم النبات وعلم الحيوان وبالهندسة الوراثية، فلا ينبغي أن تنجم عنها أي نتيجة سياسية. اللغة تيسر التقاء المتكلمين بها، وتقرب بعضهم إلى بعضهم الآخر، على الصعيد الروحي، ولكنها لا تفرض عليهم شيئاً من ذلك، ولا تجعل منهم جماعة سياسية. و "التقدير الحصري للغة، مثله مثل الاهتمام المفرط المعطى للعرق، ينطوي هو أيضا على أخطار وسلبيات. وعندما نبالغ في ذلك فإننا نسجن أنفسنا داخل ثقافة محددة نعتبرها ثقافة قومية، وبذلك نضيق الحدود على أنفسنا، وننعزل. نترك الهواء الكبير الذي نتنفسه داخل الحقل الشاسع للإنسانية، كي نحبس أنفسنا في وحدات اصطلاحية ملفقة لوطنيين ضيقي الأفق. وما من شيء أضر بالروح من هذا. ولاشيء أسوأ من هذا على الحضارة. فلنعاهد أنفسنا على عدم التخلي عن هذا المبدأ الأساسي، وهو أن الإنسان كائن عاقل وأخلاقي، قبل أن يكون معلباً داخل هذه اللغة أو تلك، وقبل أن يكون عضواً في هذا العرق أو ذاك، ومنتسبا إلى هذه الثقافة أو تلك. إذ قبل الثقافة الفرنسية، وقبل الثقافة الألمانية والثقافة الإيطالية، (وقبل الثقافة العربية[2]) هناك ثقافة إنسانية. انظروا إلى رجالات النهضة الكبار، لم يكونوا فرنسيين ولا إيطاليين ولا ألمان. لقد عثروا من خلال تعاملهم مع الأزمنة القديمة على سر التربية الحقيقية للروح البشرية، ونذروا أنفسهم لذلك جسداً وروحاً. لكم كان صنيعهم جيداً!"[3] والأمر نفسه ينطبق على الكبار من العلماء والمفكرين والمبدعين الذي حاولنا عبثاً حبسهم في نطاق "القومية العربية"، كالجاحظ والكندي والفارابي والخوارزمي والتوحيدي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم كثير في جميع العصور.
عندما نطرد التجريدات الميتافيزيقية واللاهوتية الفارغة من حقل السياسة مكللة بالورود، على نحو ما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته، وحين نستبعد من هذا الحقل جميع المحمولات الذاتية للأفراد والجماعات، لا يظل فيه شيء سوى الإنسان، الكائن العاقل والأخلاقي، بالتلازم الضروري بين العقل والأخلاق، والمعرف بالعمل والإنتاج والخلق والإبداع، الإنسان بوصفه ذاتاً حرة وفاعلة ومسؤولة، أي بوصفه إرادة عاقلة وفاعله وغائية، إرادة تنبع من حاجاته الضرورية والكمالية، ومن رغباته وأشواقه وتطلعاته، ولكنها لا تجد إشباعها إلا في نطاق الإرادة العامة، الاجتماعية والمجتمعية، إذ لا سبيل إلى تلبية الحاجات المادية والروحية وإشباعها إلا في المجتمع. هذه الذات هي أساس الكائن الأخلاقي الذي هو الأمة ونتيجته الضرورية، لأن الأساس والمؤسَّس من طبيعة واحدة أو من ماهية واحدة. الفرد الطبيعي هو أساس المجتمع المدني ومحدد به بالضرورة، والمواطن هو أساس الدولة السياسية ومحدد بها بالضرورة، الأساس هنا هو ماهية المؤسَّس. ولا تتجلى روحية الأمة وروحانيتها في شيء أكثر من إيثار المواطن السقراطي تجرع السم على مخالفة قوانين بلاده، الأمة الحديثة يستوي لدى أعضائها الدفاع عن الوطن والدفاع عن القانون، ويتساوى لديهم حب الفضيلة وحب الحكة وحب الدولة، والفضيلة هنا هي المواطنة بالتمام والكمال، وهي وسط بين رذيلتين[4] هما الإفراط والتفريط، أو التعصب والعدمية.