الحياة البشرية، وكان كافياً أن يخترع أحد أهالي مدينة صور الدولاب لتدور عجلة الحضارة .. والقائمة لا تنتهي. المبدأ الأساسي لأي عمل تاريخي، ولأي عمل على الإطلاق، هو اعتراف كل منا بذاته على أنه إنسان متساوٍ مع سائر بني آدم، لا في الإنسانية فحسب، بل في الملكات والاستعدادات أيضاً، وبأنه "أنا أفكر"، قبل أن يكون، ولكي يكون، عربياً أو مسلماً أو غير ذلك. وهو، إلى ذلك، اعتراف كل منا بأن العروبة والإسلام وغيرها هي من محمولات الإنسان، والمحمول لا يختزل الحامل، ولا يضيف إلى ماهيته شيئاً ولا ينقص منها شيئاً، وإن كان يحدده تحديداً ذاتياً. مشكتنا، بل جذر مشكلاتنا، تكمن ويكمن في عدم تمييز التحديد الذاتي من التحديد الموضوعي. التحديد الموضوعي لأي منا هو كون أي منا إنساناً، في الجملة الإنسانية، ومواطناً في الجملة الوطنية. وهذان، الإنسان والمواطن، تحديدان مجردان جداً وواقعيان جداً، وهنا بالضبط تتبين لنا العلاقة المنطقية والواقعية بين المجرَّد والمعيَّن، بين المفهوم والشكل، العلاقة التي تلخصها الجملة الخبرية: سقراط إنسان، و / أو سقراط مواطن، آثر أن يتجرع السم على مخالفة قوانين بلاده.
تحديداتنا الذاتية: عرباً ومسلمين، سنة أو شيعة أو غير ذلك، قوميين أو إسلاميين أو اشتراكيين أو غير ذلك، ... هي مرايانا المحدبة والمقعرة بتناسب طردي مع درجة تمذهبنا. وهي، أي تحديداتنا الذاتية، أكلت أو طمست تحديداتنا الموضوعية. أيديولوجياتنا هي مرايانا المحدبة أو المقعرة، ولا فرق، لأننا لا نرى فيها ذواتنا على حقيقتها في الحالين. ما يدعو إلى وضع جميع محمولاتنا تحت السؤال، وذلكم هو مبدأ الجهاد، جهاد المعرفة واستقلال الوجدان، وجهاد النفس الأمارة بالسوء. لنعترف أن العروبة والإسلام، وما في حكمهما، تحديدات ذاتية، وأن جميع محمولاتنا هي بالأحرى تحديدات ذاتية ليس لأي منها قيمة مطلقة، ولا تضيف أي منها شيئاً ولا تنقص شيئاً من ماهيتنا الإنسانية ومن ماهيتنا الوطنية. والإنسانية هي أساس الوطنية ورافعتها.
الإنسان مرآة الإنسان؛ والفكر / العمل إعادة تشكيل للعالم، لا تني ولا تتوقف، إلا بافتراض نهاية الجنس البشري. وبقدر ما يستحيل علينا فصل الفكر عن العمل البشري يستحيل علينا فصل المادة عن الفكر، أو عن الروح. الفكر هو روح العالم، عالم الإنسان، وشكله. ومن ثم فإن الشكل من طبيعة المضمون ذاته. الشكل والمضمون معاً هما الإنسان موضعاً، وهما مرآة الإنسان. الدولة الوطنية، أو الدولة الأمة، موضوع بحثنا شكل، هو من طبيعة المضمون ذاته، أي من طبيعة الأمة، التي يجسدها المجتمع المدني. المجتمع المدني والدولة الوطنية معاً، بوصفهما كلية عينية، هما الإنسان مموضعاً، وهما عالم الإنسان ومرآة الإنسان.
ذلكم هو مغزى قول هيغل إن الشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون في مغزاه الأكثر عينية أيضاً هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً مادياً أو أخلاقياً. فلم يعد ممكناً وهذه الحال تصور عقل مفارق للعالم، "نوس" على طريقة الأقدمين، أو روح مفارق للمادة، أو شكل مفارق للمضمون أو روح أو نفس مفارقة للجسد. وهذه خطوة، في طريق لا تنتهي، إلى الفكرة الشاملة. لذلك يبدو لنا تعريف الدولة بأنها شكل سياسي للمجتمع شديد الأهمية، لكي نقول إن الدولة الوطنية هي روح المجتمع المدني وشكل وجوده الحقوقي، أو القانوني، والسياسي والأخلاقي، في الوقت ذاته، من دون أن نحصر تفكيرنا في شكل معين من أشكال الدولة، أو في جميع أشكالها المعروفة حتى اليوم، لأن كل مجتمع ينتج دولته وفق شروط حياته، على نحو يرى فيها كل فرد من أفراده صورته السياسية والأخلاقية. ولكي نقول أيضاً: إن الدولة لن تزول إلا بزوال المجتمع المدني، وكل شيء إلى زوال، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ماذا بعد، إلا من باب الافتراض والتكهن والتخمين والرجم بالغيب. والقول بنهاية التاريخ أدلوجة تريح الكسالى والخاملين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، (العقل)، كما أطفأته الأيديولوجية القومية والأيديولوجية الإسلامية والأيديولوجية الاشتراكية، والأيديولوجية الليبرالية الجديدة أيضاً، لأن لكل واحدة من هذه الأيديولوجيات تصورها الخاص عن نهاية التاريخ. ومن ثم فإن هذه الأيديولوجيات ذاهبة إلى الموت، لا إلى الحياة، لأن نهاية التاريخ هي العدم، سواء انتهى إلى وجود خالص أم إلى عدم خالص، رأسمالي ليبرالي أو إسلامي أو قومي عربي ..، فالوجود الخالص عدم خالص والعدم الخالص وجود خالص لا حركة فيه ولا حياة. على هذا القياس تكون الأمة العربية، في وعي القوميين وفي نسق تفكيرهم، والأمة الإسلامية في وعي الإسلاميين وفي نسق تفكيرهم، وجوداً خالصاً هو عدم خالص، يندرج في تصور ذاتي لنهاية التاريخ ومآله إلى "العصر العربي الإسلامي" بحسب أحد القوميين، أو إلى "أسلمة العصر"، بحسب أحد الإسلاميين، أو إلى بلترة العالم بحسب جميع الاشتراكيين الثوريين.
المرايا التي ترينا ذواتنا على حقيقتها هي نتاجات أعمالنا فحسب. هوية أحدنا هي ما ينتجه، في المجتمع، على الصعيدين المادي والروحي. فإن جماعة لا ترى ذاتها في منتجات فكرها وعملها، المادية والروحية، هي جماعة عمياء، وليست أمة بعد.
في ضوء ذلك يمكن القول إن المجتمع المدني هو من إنتاج ذاته، وإن الأمة من إنتاج ذاتها، من إنتاج الروح الإنساني، من إنتاج الإنسان، الذي يشكل حياته الاجتماعية أشكالاً شتى: اجتماعية (تنظيمات وعلاقات) وثقافية وسياسية وأخلاقية، هي العقل نفسه بوصفه معرفة نظرية، وأن جميع هذه الأشكال من طبيعة المضمون ذاته. المضمون قابل للتشكل أشكالاً لا حصر لها، سواء كان مادياً أو أخلاقياً؛ وذلكم هو مصدر الغنى والثراء في الحياة الإنسانية. والإنسان حينما ينتج ذاته في العالم وفي التاريخ، ليصير العالم عالمه والتاريخ تاريخه، لا يفعل ذلك بصفته العرقية / اللغوية ولا بصفته الدينية أو المذهبية ولا بأي صفة أخرى سوى صفته الإنسانية.
ولكن هل جميع هذه التحديدات نافلة وبلا طائل؟ كلا بالطبع. بل هي مهمة جداً، لأنها تحدد طريقة الإنتاج أو أسلوب الإنتاج وغاية الإنتاج أو هدفه، في ما يتعدى إشباع الحاجات الأساسية أو الضرورية. ينتج من ذلك أن الدولة / الأمة، بوصفها شكلاً، لا تلغي أشكال الوجود الأخرى، القائمة منها والممكنة، وإلا لغدت الحياة بسيطة وفقيرة لو أنها اقتصرت على شكل واحد ونسق واحد. ولكن الدولة لا تتماهى مع أي من الأشكال الأخرى، ولا ترقى إليها أي من هذه الأشكال.
وفي ضوء ذلك يبدو جلياً أن المعرفة النظرية ليست شيئاً نافلاً أو قليل الأهمية، ولا نعني بذلك الفلسفة فحسب، بل جميع العلوم والآداب والفنون والدين أيضاً، بوصفه معرفة متجهة إلى الذات، بل لا نغالي إذا قلنا إنها أساسية، بل هي الأساسية. والمعرفة هي التعبير المرادف للحرية. ومن ثم فإن الحرية هي ماهية الأمة، ماهية المجتمع المدني الجوهرية، وبقية التحديدات تابعة. وهي ماهية شكله السياسي، ماهية الدولة، التي تتجلى في القانون. والقانون أيضاً هو التعبير المرادف للحرية، ولكن في صيغتها الموضوعية. القانون هو الحرية الموضوعية، وذلكم هو العنصر العقلي في الدولة / الأمة. ولذلك فإن ازدراء القانون هو ازدراء للأمة، ازدراء للدولة، وهو قبل ذلك وبعده ازدراء للإنسان.
الحرية، بوصفها ماهية الأمة وماهية الدولة، أهم من العرق، وأهم من اللغة، وأهم من الدين، وأهم من الأرض، وأهم مما يسمى التاريخ المجيد، وأهم من "السلف الصالح"، ومن "أبطال الأمة"، وأهم من "الشهداء"، وأهم من جميع النظريات القومية والثوابت القومية؛ لأنه لا معنى لهذه جميعاً من دونها. الحرية هي المقوم الرئيس للأمة، والبقية تابعة وقليلة الأهمية. ليس بوسع المرء أن يعتز باللغة العربية، مثلاً، ما دامت لغة عبيد، وهي كذلك حتى يومنا، ما دام العرب مستعبدين للطغاة والمستبدين من جهة، وما دام نصفهم يستعبد نصفهم الآخر (النساء) من جهة ثانية، ولأن فيهم من لا يزالون مستعبدين للطبيعة من جهة ثالثة، ولأن كتلتهم الأساسية لا تزال مستعبدة لطبيعتها، ولثقافة أسلافها المفترضين أخيراً. فلا قيمة للحرية الذاتية إن لم تتموضع وتتمأسس، فتتحول في الواقع إلى حرية للجميع، وإلا غدت أقرب إلى الاندفاعات الغريزية العمياء، ولا قيمة للإرادة الفردية إذا لم تكن عامل غنى وثراء وعامل إنماء وتجديد للإرادة العامة. الحرية الموضوعية والإرادة العامة على السواء تنموان طرداً مع نمو الروح الإنساني وتموضع الحرية الذاتية والإرادة الذاتية مرة بعد مرة. إن عظمة القانون وسموه وقابليته للتطور لا تكمن في القانون ذاته، بل في مصدره، أي في الحياة الاجتماعية، في حياة الأمة.
لم تقم أمة حديثة ولا يمكن أن تقوم على أساس العرق أو اللغة أو الدين أو الأرض أو "التاريخ"، بل إن جميع الأمم الحديثة القائمة والممكنة قامت ويمكن أن تقوم على أساس الحرية وجدلها الداخلي، أي على أساس التعاقد الحر بين أفراد أحرار بطبيعتهم، لا بشرطهم الاجتماعي السياسي. فإن فكرة الأمة الحديثة مرتبطة بفكرة العقد الاجتماعي وبفكرة المجتمع المدني القائم على التعاقد فحسب. ذلكم هو العنصر العقلي أو القانون الكامن في جميع الوقائع التاريخية: الاجتماعية الاقتصادية والثقافية