مرايا محدَّبة ومرايا مقعَّرة
الفكر هو شكل العالم والسبيل الوحيد إلى معرفته، ومن ثم، فإن موضوع الفكر إما أن يكون خارجياً وإما أن يكون داخلياً. على هذا الصعيد، ثمة عالمان: عالم المشاهدة والأعيان، الذي يمكن أن يفتح مغاليقه للذات العارفة، التي تعي حريتها واستقلالها، بقدر ما تجعل منه موضوعاً خارجياً لها، وعالم الأحلام والأوهام، الذي تنتجه ذات لا يزال حبلها السري متصلاً بالطبيعة، أو الذي ينتجه خيال مريض وفاهمة معطوبة، والذي لا يمكن أن يكون موضوعاً خارجياً للذات العارفة، بل مجرد موضوع داخلي لها قوامه جملة من المشاعر والرغبات والحدوس والأوهام الذاتية. فالعقل أو الفكر لا يستطيع أن يذهب إلى الدين أو إلى الأمة العربية وإلى القومية العربية وإلى الرسالة الخالدة ... وإلى الوحدة العربية أيضاً إلا بوصفها مواضيع داخلية، ذاتية، كالمواضيع الدينية سواء بسواء، لأنه حين يحاول أن يجعل منها مواضيع خارجية يصطدم بحدود الواقع، بالحدود السياسية والأعلام والأناشيد الوطنية والحكومات ومؤسساتها وقوانينها وجيوشها وأجهزتها الأمنية، ومصالح حكامها وولاءات مواطنيها... وكلها تقول له: الأمة العربية ليست هنا، هنا الجمهورية العربية السورية أو الجمهورية اللبنانية أو المملكة الأردنية الهاشمية أو المملكة العربية السعودية، أو جمهورية مصر العربية ... ولا تخدعنَّك صفة العربية هنا أو هناك، فهي من قبيل التلبيس، ومن أعراض الأيديولوجيا القومية ليس غير. ابحث في مكان آخر. وليس من مكان آخر سوى مكان متخيَّل وزمان متخيل تحتلهما أمة عربية متخيلَّة. ولو أن الفكر حاول أن يذهب إلى العرب لوجدهم في بلدان شتى وأصقاع شتى، أو إلى اللغة العربية وآدابها وفنونها وثقافتها لوجدها أيضاً في بلدان شتى لدى شعوب شتى، عربية وغير عربية. فالعروبة واللغة العربية والثقافة العربية تقدم نفسها للفكر مواضيع خارجية شأنها شأن غيرها من مواضيع المعرفة. ومن ثم، فإن "الفكر القومي العربي"، كالفكر الديني، قام ولا يزال يقوم على الحدس والخيال أو على "المعرفة" اليقينية المتجهة إلى الداخل، إلى داخل الذات، التي ترغب في معرفة ذاتها وتعريفها كما يحلو لها، إذ تنظر إليها من خلال مرآة أيديولوجية محدبة حيناً ومقعرة حيناً آخر. في حين تتجه المعرفة العقلية إلى موضوع خارجي ذي تعيينات واقعية، أو تذهب إليه مسلحة بالخيال السليم، المبدع، الذي ينطلق، في كل مرة، من أرض الواقع، من العالم القائم بالفعل، ويكتشف آفاقاً جديدة للواقع ذاته، الذي انطلق منه، وللعالم ذاته، من دون أن يتجاوز حدودهما، فيكتشف إمكانات واحتمالات غير معروفة بعد، قد تتحقق بعد حين. فالواقع أرحب مما نظن، وأعمق مما نظن، وأجمل مما نظن، وأكثر غنى وتعقيداً مما نظن، وليس شفافاً بعد إلا بمقدار. خيال العلماء وحدوسهم العبقرية شاهد صدق على ذلك، فلا أظن أن خيال الخوارزمي أو خيال نيوتن أو خيال أينشتاين أو هايزنبرغ، مثلاً، أقل خصوبة وجموحاً من خيال أي شاعر مبدع أو فنان مبدع؛ فإن إدراك عملية تحول ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل تحتاج إلى خيال مبدع، وإن تصور انتظامية الكبائر على أنها عشوائية الصغائر تحتاج إلى خيال مبدع وإلى حدس عبقري بما هي الحرية وبما هو القانون، وإلى حدس عبقري بأن القانون هو الحرية الموضوعية، وإن تصور علاقة الجذب والنبذ التي تمسك الكون اللامتناهي، وتحدد مدارات أفلاكه ومصائر أشكاله، تحتاج إلى خيال مبدع، وإن تصور أن الإنسان كون صغير تحتاج إلى مثل هذا الخيال، وإن تصور الدولة على أنها تجريد المجتمع المدني وعلى أنها عالم أخلاقي، وتصور الأمة على أنها وعي أخلاقي يحتاجان إلى مثل هذا الخيال، وتصور أن المواطن هو تجريد الفرد الطبيعي يحتاج أيضاً إلى مثل هذا الخيال. وثمة فارق نوعي بين الخيال والوهم، الأول ينطلق من الواقع ولا يتجاوز حدود إمكاناته واحتمالاته ومنطقه الجدلي، في حين ينطلق الوهم من تصورات ذاتية عن عالم وهمي، لا وجود له إلا في الذهن.
"الفكر القومي العربي"، من ساطع الحصري إلى نديم البيطار مروراً بزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وعصمت سيف الدولة وغيرهم كثير، المؤسس على جوهر قومي عربي متعال وعلى تاريخ تصوري مقدس ولغة مقدسة يتخفى في ثناياها العرق والدين، هو، من هذه الزاوية، الشكل المناسب لعالم الأحلام والأوهام، ولعالم الاستبداد. لأن الوهم والتوهم والإيهام من طبيعة الاستبداد؛ فالمستبد كبيراً كان أم صغيراً يتوهم أنه سيد من يستبد بهم، مع أنه أكثرهم عبودية، ولا يبعد أن يتوهم أنه من طينة أخرى، أو من نسل الآلهة، أو أن روح الأمة قد حلت فيه، وتصور له أوهامه أنه أوتي حقاً إلهياً أو تفويضاً مطلقاً من "الأمة" في ازدرائهم واستتباعهم أو استعبادهم، مع أن قوته ليست سوى ضعفهم، وعظمته ليست سوى مذلتهم ومسكنتهم، وليس غناه سوى فقرهم. أريد إن أقول إن ما يسمى الفكر القومي العربي، كما تجلى في الممارسة العملية، هو نتاج أوهام ذاتية وفاهمة معطوبة وخيال مريض. فتعالوا نشخص المرض ونتعرف عوامله ومضاعفاته، ذلكم هو أول الكلام.
لقد حان الوقت لإقامة الحد على ما يزعم أنه فكر قومي عربي وفكر إسلامي وفكر عربي اشتراكي أيضاً، فقد نضج الواقع الذي ينتمي إليه هذا الفكر، بمختلف ألوانه، وشاخ. بل لعله فات وقت طويل لم نتجرأ في خلاله على استدعاء الفكر القومي والفكر الإسلامي والفكر الاشتراكي العربي أيضاً إلى محكمة العقل والضمير، وكان يفترض أن تستدعى هذه جميعاً منذ عام 1967، على الأقل، (وقد فعل ذلك قلة من المفكرين، منهم ياسين الحافظ، لكن ما فعلوه ظل صيحة في واد) فهل يعقل أن نغض الطرف عن حماقاتنا القومية والإسلامية والاشتراكية طيلة نصف قرن؟! وهل لهذا العجز من سبب آخر غير تعشق الاستبداد والخوف من الحرية؟ فمن منا لم يكن معجباً بهذا أو ذاك من رموز الاستبداد؟
"ماض مجيد" هو موطن الفخر والاعتزاز الأدبيين، وموئل الاستعلاء والتسامي على الآخرين، و"حاضر مَهين" ووضيع هو موطن التصاغر والاستخذاء، وموئل الشعور بالدونية والعجز. ذلك الماضي وهذا الحاضر مرآتان للذات العربية، أولاهما محدبة والثانية مقعرة. فلا يزال العربي يخطئ مرتين كلما حاول تعرُّف ذاته وتعريفها: مرة حينما ينظر إلى ذاته في مرآة محدبة، وأخرى حينما ينظر إليها في مرآة مقعرة، وفي كل مرة لا يبلغ سوى نصف الحقيقة، الذي يبعده عن ذاته، أي يبعده عن العقل ويبعده عن الله، إما بالغطرسة والاستعلاء وتقدير الذات فوق قدرها، وإما بالتذلل والمسكنة واحتقار الذات وتبخيسها. وذلك لأنه قد "أشكل عليه الإنسان"، ولم يكتشف بعد أن "الإنسان هو مرآة الإنسان". النظر إلى الذات في مرآة محدبة أو مقعرة ليس دليلاً على نقص التطور الثقافي فحسب، بل دليل على ضعف الروح الإنساني أو ضموره. والاستبداد مما يضعف الروح الإنساني ويزهقه. الاستبداد والعبودية صنوان، فـ "العبد هو من ضعف روحه وقلت حيلته فأتبع نفسه لغيره" بحسب أرسطو. وسيد العبيد هو أكثرهم عبودية ومذلة وصغاراً، لأنه عبدهم، فسيادته متوقفة على عبوديتهم ومرهونة بها. وبئست سيادة ليست سوى عبودية مقلوبة.
الماضي المجيد والتراث والأصالة، من جهة، والحداثة "الغربية" والغريبة، حداثة الأغيار والكفار، بجميع منطوياتها، من جهة أخرى، مرآتان للذات العربية: إحداهما محدبة والأخرى مقعرة. كل منهما تريه ذاته على غير حقيقتها، في الأولى يرى ذاته عملاقاً وأستاذ البشرية وحامل مشعل الحضارة ورسالتها الخالدة، وفي الثانية يرى نفسه قزماً مهاناً وفقيراً ومريضاً وجاهلاً ومتخلفاً؛ ذلك لأنه لا يرى ذاته في ماضي البشرية وتاريخها وتراثها وأصالتها الإنسانية، بل في "تاريخه" ز"تراثه" فحسب. ولا يرى ذاته في الحداثة الكونية، التي صارت منجزاً حضارياً لجميع بني الإنسان. لذلك اقترنت الأيديولوجية القومية العربية والأيديولوجية الإسلامية بالحنين إلى الماضي والتماهي بأهله والاعتماد النفسي عليه من جهة، وبمجافاة الحداثة إن لم نقل بمعاداتها من جهة أخرى. كلما كان القوميون العرب والإسلاميون (والاشتراكيون أيضاً) يمعنون في تمذهبهم كانوا يزدادون مجافاة للحداثة وابتعاداً عنها وتوجساً منها. ولعل في إقبالهم على التقانة مقطوعة عن جذورها المعرفية والثقافية والأخلاقية ما يدل لا على نزعة استهلاكية فحسب، بل على نزعة حسية وأداتية قاصرة لا تبلغ حدود الفهم والتفهم، ناهيك عن حدود العقل والتعقل، ولا يبلغ من يستعملها أو يتوسل بها، لاستجلاب المنافع أو لاقتناص الملذات، حدود السعادة والتصالح مع الذات.
"الإنسان مرآة الإنسان"؛ فما أنتجه وما ينتجه الأوروبيون هناك يمكن إنتاجه هنا، في حال تساوي الشروط وتشابه الظروف، لأن الإنسان هو الإنسان، كائن عاقل وأخلاقي، في كل زمان ومكان؛ المشكلة ليست إذاً في العربي أو المسلم، وليست، من ثم، في العروبة أو في الإسلام، بل في الشروط، الذاتية منها والموضوعية، وفي الظروف. وهذه أي الشروط الذاتية والموضوعية، مما يمكن التأثير فيه وتحسينه باطراد، وجعله مواتياً أو مصاقباً لمطالب العقل ومطالب الروح الإنساني، ذلكم هو درس "روبنسون كروزو". لقد كان كافياً أن يكتشف الإنسان النار في مكان وزمان محددين لتتغير