...بسم الله الرحمن الرحيم...
قلب عينيك في الملكوت ترَ الجمال بديعاً, وافتح قلبك لأسرار هذا الجمال ترَ الحياة ربيعاً, وخُض في معترك الحياة تكن لك الحياة جميعاً, واجمع لي قلبك أجمعْ لك عقلي, وامنحني يدك فإني لأرجو أن أمنح لك حياةً هادئة سعيدة بإذن الله , وافتح صدرك أملأة دفئاً ومحبةً وصدقاً , كن معي لأكون لك كما تحب .
وأعطني دمعةً تحيي بها قلبك ,وتسلّي بها نفسك, فدموعنا مداد للفكر ,وعبراتنا ثباتٌ على المبدأ, وبكاؤنا دوام على النهج والمنهج , قلوبنا أهديناها بالحب إلى غير محب, ففقدنا أعزَّ ما نملك , وإذا بنا نتحسس أماكنها وقد تَوهَّمنا وجودها, إننا بحاجة إلى أن نحب .. ولكن لا نغلو, ونهوى .. ولكن لا نفرط , ونعشق .. ولكن بتعفف .
إن القلب هو الكنز الذي لا يقرؤه إلا من يملكه وإن راحة الضمير أنوارٌ تتلألأ في الغَلَس وينابيع متفجرة في الصحارى وكنوز داخل البيوت المهجورة كم من الوقت ضاع لأجل الحب وفي دوّامته ؟ وكم من العقول ذهبت لأجل الحب في دائرته ؟ ونغرق يومنا في أبجديات الحب !!! فمحب يعيش بين الذكرى والنسيان ومحب يتيه بين الوصل والحرمان حبٌّ يُسعد في الاسم ويُشقي في الرسم جمالٌ في الصورة وغموضٌ في الحقيقة .
الحب تاجٌ.. لكنه من حديد وكنزٌ.. لكنه من تراب ومعدنٌ.. لكنه من سراب وأي حبٍ يُدَّعى فإنه ناقصٌ إذ العلاقات بين الآدميين بنيت على المصالح – في الغالب – وإن تنوعت صور الجمال أو تجمَّلت الصور . وإن لكل فؤادٍ نزعةَ حبٍّ عذريةً تفيضُ بعذبِ الهوى ونميره ولو اطَّلع الناس على قلوب القساة لوجدوا فيها أنهاراً متدفقة من الحب والرحمة ولكنها تصب في أرض قيعان .
وإني أحمل راية بيضاء لبيض القلوب أن تتوجه بالحب إلى أصدق الحب وأبقاه وأبقى البر وأوفاه إلى ...
أشـواقـنـا نحو الحجاز تـطـلـعـت *** كـحـنـيـن مـغـتـرب إلـى الأوطانِ
إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تـسـمـو بـهـمـَّـتـها إلـى الطيرانِ
لن أقول : " كانت الحياة قبل البعثة ظلاماً " ؛ إذ لا يجهل ذلك أحد ولن أقول : " كان الظلم ولم يكن غيره " ؛ إذ لا أحد يشكُّ في ذلك ولن أقول : " كان الحق للقوة " و " كانت الحياة للرجل لا للمرأة " ؛ إذ الناس أجمعوا على ذلك ولكني أقول : مع البعثة أرتوى الناس بعد الظمأ :
لما أطل محمدٌ زكت الرُّبى *** واخضرَّ في البستان كل هشيم
وكان من المبشرات بميلاد الحياة ما صادف المولد النبوي من إهلاك أصحاب الفيل ؛ فإنه بشرى بإهلاك الطاغوت والطغاة وولادةٌ لفجر العدالة والحياة كما أن في إهلاكهم اجتماعاً لكلمة قريش وتوحدها ولذا أنزل الله – تعالى – بعد سورة الفيل سورة قريش بياناً لسبب من أسباب إهلاك أصحاب الفيل وهو أنه لتأتلف قريش ومن بعد ذلك كلِّه ذكَّر قريشاً بـنعمتين عظيمتين أُولاهما : أن أطعمهم من جوع وتمثَّل ذلك في رحلة الشتاء ورحلة الصيف وثانيهما : أن آمنهم من خوف وهنا كلمة " خوف " جاءت نكرة دالة على العموم فيدخل في ذلك كلُّ خوفٍ ألمَّ بهم فأمنوا منه كما في قصة أصحاب الفيل وأبرهة الأشرم أو خوفٍ يحدث لهم بعد ذلك ظاهراً كبعثة محمد وإنما هو رحمةٌ وأمنٌ وأمان لهم ظاهراً وباطناً حينما يظهره الله – تعالى – كما أهلك الله أصحاب الفيل لكي تتعلق القلوب بربِّ البيت الذي أهلك البغاة وكيف يكون شكرهم له .
وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ *** من الدروع وعن عال من الأُطمِ
ومما كان ممهِّداً ومقدِّماً لدعوة الإيمان التي حملها محمد : اجتماع النفوس على نصر المظلوم وردِّ الفضول على أهلها وبه سمي الحلف وفيه انتصار للعدالة وإنْ كان ذلك على نطاق ضيق لكن : " لا شك أن العدل قيمةٌ مطلقةٌ وليست نسبيةً وأن الرسول يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين ؛ فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى ولو صدرت من أهل الجاهلية ".
وقد قال النبي عن ذلك الحلف : " شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه "
وسمَّاه : المطيبين ؛ لأن العشائر التي عقدت حلف المطيبين هي التي عقدت حلف الفضول وإنما كان حلف المطيبين قبل ميلاد محمد بعد وفاة جده قصي .
ومن ذلك ما روى البخاري – رحمه الله – في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان يوم بُعاث يوماً قَدَّمه الله لرسوله فَقَدِم رسول الله وقد افترق مَلَؤُهم وقُتلت سرواتهم وجُرِّحوا فقدَّمه الله لرسوله في دخولهم الإسلام "
هذا على العموم وفي الظاهر . أما ماكان ممهداً له في ذاته فإن الخلوة والتعبد من أهم سمات العظماء فإنه بعد ذلك ممتلئٌ بما فرّغ نفسه له ؛ فقد عائشة – رضي الله عنها - " كان رسول الله يتحنث في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء " .
ومما كان مطمئناً له قبل نزول الوحي الرؤيا الصادقة ؛ فكان لا يرى رؤياً إلى جاءت مثل فلق الصبح .
ومع بشريته وإعلانه بإعلان القرآن لذلك إلا أنه ذكر من المعجزات والآيات ما كان آية على علو منزلته ورفيع قدره ؛ فقد حدَّث : أن حجراً كان يُسلم عليه قبل النبوة . فللَّه ما أعظم هذا القائد وما أصدقه ! فما عرفت مكة أميناً كأمانته فلما أظهره الله بالحق الذي معه لم يكن عندهم ظاهراً كذلك :
لقبتموه أمين القوم في صغر *** وما الأمين على قولٍ بمتَّهمِ
ولعلي أقف عند هذا الحد وأدخل فيما أردت من موضوع الحب لرسول الله ؛ فإن الحب أسمى العلاقات ولعله أرقها وإنما يبعث على كتابة مثل هذا الموضوع قول الرسول الكريم : " أنت مع من أحببت " وأي سعادة تقارب تلك السعادة في الحب ؟ وأي نجاح في النهاية يوازي ذلك الحب ؟ يقول ابن تيمية – رحمه الله - : " وإنما ينفع العبدَ الحبُّ لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين ؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم " .
وإذا تعلق قلب العبد بالله أحب كل ما يقرب إلى الله ويزيده ويبقى أنه أشد حباً لله فلا حب يوازي ذلك الحب وإنما يحب بحب الله وله . قال ابن تيمية : " فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله كما إذا ذكرت النبي والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك ؛ فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله ؛ فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصاً لله فإن الله هو محبوبه ؛ فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله " .
وإن مما دعاني إلى كتابة هذه الأحرف ما أراه من تخلي القريب الأدنى عن سيرة المصطفى وسنته وتحليهم بما يؤسف له من رموز الفكر والأدب في جميع أحاديثهم وإن هذا نكس ونقص في الفطرة والتعليم وإلا فقد قال – تعالى - : " أَتَستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " [ البقرة : 61 ] .
وما أراه من هجوم البعيد على سنة الكريم وسيرته مما تبثه وسائل الإعلام المختلفة تصريحاً وتلميحاً ظاهراً وباطناً والله المستعان .
" وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمداً بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها ؛ لأن مسلماً يقد محمداً على هذا النحو يحب محمداً مرتين : مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس " -العقاد في مجموعة العبقريات- .
وحسبي أن أنا خضت في هذا الموضوع أن أنال محبة القوم وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق ومن السوار ما أحاط بالمعصم :
أسيرُ خـلف ركاب النُجْبِ ذا عـرج *** مؤمـــلاً كشف ما لاقيت من عوج
فـــإن لحقتُ بهم من بعد مـا سبقوا *** فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقـيت بظـهر الأرض منقطعــاً *** فما على عرج في ذاك من حـرج
واسمح لي أن انتقل وإياك إلى جيل تعيش معهم الأمن والسكينة بعد أن ذقت من الدنيا خوفاً وهلعاً ودعني أستل من قلبك خيطاً أبيض نلتمس به الصلة بيننا وبينهم وأعرني دمعة تخفف بها الهوة بيننا وبين رسول الله وتوقيره .
من طريف اختكم في الله نور الايمان