( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(24) ( النمل) |
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ(76) ( الشعراء )
لقد لجأ سيدنا إبراهيم ( ع) – وكما يظهر من الآيات – إلى ضرب الأمثال والاستشهاد بها واعتماد وسائل معينة لإثبات بطلان فكرة الوثنية وعبادة الأصنام واتخاذها آلهة.
( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123) (هود)
* التعليق تحت صورة حمورابي:-
( في هذا النصب الحجري، يشاهد حمورابي وهو يقدم طاعته وعبوديته بموجب عقيدته الوثنية المنحرفة إلى إله الشمس في الديانة البابلية والمسمى " شمش" ).
غير إن الجواب الوحيد لقومه تجاه كل هذا المنطق والمحاكمة العقلانية كان ترداد " هكذا وجدنا آباءنا ". وكما سبق وذكرنا هذا القول وهذا المنطق كثيرا ما استخدم من قبل الأقوام والمجتمعات القديمة في العصور الجاهلية. وهي عبارة مألوفة ومطروقة كثيرا في محاولة لإعطاء الشرعية لمعتقداتهم الخاطئة. غير أنه لا مكان لمثل هذه الآراء ة والاعتبارات في الدين الحق. ومن سياق هذه الآيات ظهر لنا سيدنا إبراهيم ( ع) وهو يدعو قومه إلى الإيمان ومعرفة خالق الكون والاعتراف بربوبيته وحده:-
This statue depicts Hammurabi (app. 1955-13 BCE) paying respect to Shamash, the Sumerian sun god. |
( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82) ( الشعراء)
وهكذا يتبين لنا أن قوم إبراهيم ( ع) كانوا مصرين على عبادة الأوثان، وثابتون بعناد على دين آبائهم. وكان سيدنا إبراهيم ( ع) يعدد لهم صفات الله العظمى وأسمائه الحسنى، ويؤكد لهم أنه الخالق المبدع والبارئ المصور لكل ما في الكون من أشياء، حية أم جامدة، وأن نعمه وأفضاله لا تعد ولا تحصى وسخر لنا كل جميل وحسن في الحياة، وإن تحت حكمه وقدرته وسلطانه كل ما في الوجود، وهو الذي وهب لنا الحياة وأتاح لنا العيش على هذه الأرض التي سخرها ومهدها لنا لننعم من خيراتها، وإن حصول أي شئ ووقوع أي حدث يكون بعلمه وإرادته، فهو الذي أراد وقدر لنا أن نمشي ونأكل ونتكلم، وجميع حركاتنا الإرادية واللاإرادية تتم بعلمه وإرادته. وكان يقول لهم – كما ذكر ذلك القرآن – أن الله هو الذي يشفي الإنسان إذا مرض ويتفضل عليه بالعافية والشفاء، وبدون إذن منه لا يقدر طبيب أو دواء على عمل أي شيء. كما وأنه سبحانه وهب الحياة للإنسان، فإذا جاء أجله فإنه يسلب منه حياته، وأن عنده العلم بالأعمار، وكم سيطول العمر بالإنسان، بالسنين والأشهر والأيام بل بالساعات والدقائق والثواني، وهو الذي قدر كل هذا حتى قبل أن نخلق ونولد. ومكتوب في صحائف أقدار كل حيّ تفاصيل دقيقة عن جميع أمور حياته، وجميع حركاته وأفعاله وأقواله، ولا يقدر على اتخاذ أي قرار أو فعل أي عمل خارج ما قدره له الله وكتبها في كتاب قدره.
لقد خلق الله الإنسان ووهب له حياته في الدنيا من أجل امتحانه واختباره. وأرسل الرسل والأنبياء لإرشاده وتعريفه بالحق وطريق الهداية وأنزل آياته البينات لإخراجه من الظلمات إلى النور. وسوف يحاسبه يوم القيامة على جميع أعماله وتصرفاته. أما من آمن منهم واهتدى وخاف مقام ربه وخشيه بالغيب والتزم أوامره ونواهيه بدقة وكمال وجه، وسخر حياته لنيل رضاه، وعمل الصالحات ليكسب رحمته، فسوف يلقى من ربه جزاءه بالحسنى ويجزي بأحسن ما عمل، لأن ربه رفيق بعباده شفوق عليهم، ورحمته تسعهم وعفوه، يغفر سيئات الذي آمنوا به ويعفو عن خطاياهم يوم الحساب. وقد وعدهم بالنعيم المقيم في جناته الواسعة – خالدين فيها أبد الآبدين.
ولا بد لنا هنا من ذكر موضوع نعتقد أنه يكتسب أهمية. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يهدي الناس الذين يدعوهم إلى الإيمان ويقوم بتبليغهم بحقائق الدين. فالإيمان قسمة وفضل من الله تعالى. وهكذا نرى أن قوم إبراهيم ( ع) بقوا على الضلالة وأصروا على الكفر وعصوا أمر الله تعالى ولم يتبعوا صوت العقل ولا التفتوا إلى ما يمليه عليهم ضمائرهم رغم ما قام به سيدنا إبراهيم ( ع)من بذل المحاولات وصرف الجهود المضنية في سبيل هدايتهم وإدخالهم إلى حضيرة الإيمان. ولم يكتفوا بالإصرار على الكفر وإنما وصل بهم الحال إلى تهديده بالنفي وبالرجم وبالقتل، بل وقرروا حرقه برميه في النار كما سوف نرى تفاصيل ذلك لاحقا. لذا، يجب ألاّ ننسى حقيقة ثابتة، وهي أن على الإنسان المؤمن أن يقوم بدعوة من حوله من الناس إلى الهداية والالتزام بتعاليم الدين بكل إخلاص وجدية. ولكن إذا ما شاهد عدم الاستجابة منهم فلا بأس عليه، ويجب أن لا يحزن ويقنط.
يقول الله سبحانه في آية ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29) ( الكهف)
ويخاطب رسول الله ( ص) ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) ( الشورى)
وقال أيضا ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(104) ( يوسف)
إن من أسباب إصرار قوم سيدنا إبراهيم ( ع) على الكفر والوثنية رغم ظهور الحق أمامهم واضحا جليا، ورغم قناعتهم في دواخل أنفسهم سخف ما يعتقدون بها من أصنام وتفاهة آرائهم، هو حرصهم على الاحتفاظ بمكاسبهم والخوف على ضياع منافعهم. لأن النظام الوثني الذي كانوا عليه أتاح لهم فرص كثيرة للكسب والاكتناز والحصول على منافع مادية دنيوية. وأي تغيير أو انقلاب لهذا النظام الديني سيؤدي إلى الإضرار بهم وخسارتهم لامتيازاتهم. ( تماما مثل كفار ومشركي مكة من التجار الذين خافوا على مكانتهم ومكاسبهم ووقفوا ضد رسالة سيدنا الرسول الأكرم ( ص)). وهذه حقيقة بمثابة دستور واجه كل الأنبياء والرسل. وكما يذكر القرآن، فقد جابه جميع الأنبياء والرسل الكثير من المصاعب والعقبات، وأذى وتهديد بالإخراج وبل بالقتل. هؤلاء الأنبياء الكرام اتهموا بمختلف الافتراءات والأباطيل والصفات غير الحسنة، مثل الجنون أو قول الشعر أو السحر والشعوذة والافتراء على الله. وعكسوا الحقائق تماما باتهامهم الأنبياء بالخروج عن طريق الحق والصواب رغم أنهم كانوا على الشر والضلال والانحراف، وقلبوا بذلك المفاهيم والثوابت.
ويجب أن لا ننسى أن هؤلاء بقوا تحت تأثير الجهالة وأسرى للاعقلانية. وفي سبيل الاحتفاظ بمكاسب ومنافع مادية زائلة، دفعوا بأنفسهم إلى الهلاك والخلود الأبدي في نار جهنم وعذابها المقيم. ويخبرنا الله تعالى نهاية ومصير الذين وقفوا أمام الأنبياء والرسل الكرام، هؤلاء المختارون من بين الناس كونهم أصفى وأنقى البشر، وعباد مخلصون لله، خاشعون له:-
( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(112) ( آل عمران)
* سيدنا إبراهيم ( ع) وما خططه بشأن الأوثان
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17) (الحج) |
كما ذكر في القرآن، فإن الله تعالى يمنح عباده المتقين قابلية التفريق بين الصواب والخطأ. وهذه نعمة مخصوصة للمؤمنين دون غيرهم، وفضل كبير من الله عليهم. وأبرز مثال على هذا، ما أنعم الله به على سيدنا إبراهيم ( ع) والذي تجلى في ما قام به من أفعال وأقوال في دعوة قومه إلى الإيمان ونبذ الوثنية والشرك، ثم ما اتخذه من قرارات حكيمة وخطط متينة لمواجهة أهل الكفر وبيان مدى ضعف وسقامة معتقداتهم والأصنام التي يعبدونها. والملفت للنظر أنه قام بكل هذه الإجراءات لوحده أمام عموم قومه. وهذا لا يتأتى إلاّ بإعداد جيد وتنظيم دقيق وحساب محكم للخطوات التي ستتخذ. ومثال على ما قام به لدفع غائلة الكفار والمشركين، ادعاءه المرض لإبعادهم عنه:
( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ(85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(87)فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88)فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90)(الصافات)
وبعد أن أبعدهم عنه ذهب إلى الأوثان وقام بتحطيمها ونثر شظاياها
( فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ(92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ(93) (الصافات)
( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58) (الأنبياء)
ومن صور حكمته وحسن تدبيره وسداد تفكيره، ترك أحد الأوثان سليما. وعندما جاء المشركون إلى معبدهم رأوا أصنامهم محطمة متناثرة عدا أكبرها فلا زال قائما، وبحثوا عمن فعل هذا بآلهتهم واتجهت أنظارهم إلى سيدنا إبراهيم ( ع) لما عرف عنه من عداء للأصنام، ثم وجدوه وأمسكوا به:
( قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ(59)قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ(60)قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61)قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ(62) (الأنبياء)
هذا الموقف يفسر لماذا ترك أكبر الأصنام سليما.
( قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ(63) (الأنبياء)
وعلى أثر هذا الجواب المفحم، راجع المشركون أنفسهم وشعروا بعجز آلهتهم عن النطق والقيام بأي تصرف واصطدموا بالحقيقة من أنها ليس باستطاعتها حتى دفع الأذى عن نفسها. وبفضل هذه الخطة الحكيمة انكشفت الحقائق أمام أبصارهم.
( فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ(64) (الأنبياء)
غير إن تأثير هذه الصدمة سرعان ما انحسر أمام عناد المشركين، ورجعوا إلى ما وجدوا عليها آباؤهم وتمسكوا بها، وكذلك خشيتهم من خسارة المكاسب والمنافع التي كان يؤمنها لهم هذا النظام الوثني المتوارث:
( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ(65)قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67)قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68) (الأنبياء)
من سير الأحداث هذه، تظهر لنا دقة التخطيط ومتانة التصميم الذي أعده سيدنا إبراهيم ( ع) ابتداء من إدعاء ( المرض) الذي أبعد قومه عنه تاركا المجال أمامه للتصرف بحرية، ثم تحطيمه الأصنام جميعها عدا أكبرها. وقد فعل هذا لعلمه وتقديره بردة فعل قومه. هذه جميعها إنما نتيجة رعاية الله له وإلهامه إليه بهذه الخطط المحكمة والآراء السديدة ولما كان يتمتع به سيدنا إبراهيم ( ع) من رأي راجح وفكر نيرّ. وهكذا نرى آثار فضل الله عليه في جميع ما عمله وأوصله إلى النجاح الذي تحقق له.
وحينما ادعى أن كبير الأصنام قام بتحطيم الأصنام كلها، فكأنما وضع المشركين أمام محاكمة واستنطاق وتحقيق. وبذلك تحققت الخطوة الأولى من خطته التي اعتمد فيها التدرج والخطوات اللاحقة.
ولعل من الأسباب التي دفعته إلى تحطيم الأصنام، إظهار مدى سخف وتفاهة فكرة الشرك وعبادة الأحجار الصماء وعدم عقلانية هذا المعتقد الذي لا يتلاءم مع العقل والمنطق. وأراد أن يشعرهم بالخطأ الكبير من صنع هذه الأصنام ثم عبادتها وتقديسها والخضوع لها. وكذلك مدى الانحراف والابتعاد عن الطريق الصحيح، وعن سبيل الحق الإلهي وتقاطعه مع الوحي المنزل لإرشاد الناس وإخراجهم من الظلمات.
إن مجرد التفكير بأن هذه الأوثان لا تتحرك، ولا تأكل أو تشرب، ثم هي قادرة على إلحاق الأذى وتأمين المنافع، يدل على ضحالة في العقل والتفكير. فكيف الحال إذا ما قام الناس بطلب العون والمدد منها عند وقوعهم في مصاعب وشدائد والتضرع إليها. بل وتجاوز الأمر عندهم عندما ادعوا وآمنوا أن هذه الأحجار الصماء هي التي خلقت الكائنات وما فيها وتتحكم في إدارتها وتنظيمها وتوزع الأرزاق والمعاش وتبعث الحياة وتجلب الموت، ولها القدرة على جلب الأمراض ثم الشفاء منها. إلى هذا الحد كانوا فقراء ومحرومون من العقل السليم والتفكير الرصين والرأي السديد. ويلخص لنا القرآن ضحالة وضعف موقف المشركين هؤلاء:
( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(192)وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ(193) (الأعراف)
( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِي(195) (الأعراف)
ومن الخطأ التصور إن هذا الإدراك الضعيف المنحرف محصور بزمن النبي إبراهيم ( ع). لأن عبادة الأصنام مستمرة ولا زالت قائمة إلى أيامنا هذه، وربما تحت أسماء وشعارات أخرى. وما كان يؤمن به المشركون قريب الشبه بما يجول في أفكار أنصار " داروين" من المدعين بالتطور.
2 الكتب الستة، أ.د.إبراهيم جانان. جلد/2،ص.( 130).