يوم كان المجتمع الإسلامي يعيش في ظلال الإسلام الوارفة ويخضع لمبادئه الحكيمة، ويطبقه تطبيقاً شاملاً صحيحاً.. يومها كان للمرأة شأن عظيم، ودور كبير لم تحظ بمثله طوال التاريخ..
فقد توفر للمرأة في ظل الإسلام، وضمن المجتمع الإسلامي حرية اختيار الموقف السياسي الذي ينبع من إرادتها وقناعتها…
لأن الإسلام يطلب منها اتخاذ موقف محدد تجاه قضايا السياسية والحكم باعتبارها من أهم قضايا الأمة. وينظر لموقفها نظرة احترام وتقدير، ولا يراه موقفا فضوليا عبثيا لا قيمة له..
فكما كان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يتقبل مبايعة وتأييد الرجال المؤمنين كان يتقبل مبايعة النساء المؤمنات بأمر من الله سبحانه وتعالى. إذ يقول تعالى في سورة الممتحنة:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينكس فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(سورة الممتحنة الآية 12).
هكذا يأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بأن يتقبل مبايعة النساء، والمبايعة موقف سياسي ويطلب من نبيه أن يشرح لهن برنامجه ونظامه الاجتماعي بالإضافة إلى عقيدته الإلهية حتى تكون البيعة على أساس من الوعي والمعرفة..
فمثلاً حينما لم تقتنع فاطمة الزهراء (عليها السلام) بضعة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) برأي أبي بكر في مصادرة أرض فدك أعلنت رفضها الصريح في المجتمع، وخطأت الخليفة في مصادرته فدك ولم تقبل حتى بمقابلة الخليفة أو مبادلته التحية.. كما جاء في كتاب الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء، لابن قتيبة الدنيوري المتوفي سنة (276هـ) قال في الجزء الأول ص20:
فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها..
فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام.
فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب لي من قرابتي وأنكِ لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوكِ أني مت، ولا أبقى بعده، افتراني أعرفكِ وأعرف فضلكِ وشرفكِ وأمنعكِ حقكِ وميراثكِ من رسول الله؟.
إلا أني سمعت أباكِ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورث ما تركناه فهو صدقة ...
فقالت: أرايتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟
قالا: نعم.
فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، من أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟..
قالا: نعم سمعنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قالت: فإني أشهد الله والملائكة أنكما أسخطتماني ولم ترضياني ولئن لقيت رسول الله لأشكونكما إليه..
فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطكِ يا فاطمة ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق..
وهي تقول: والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها(الإمامة والسياسة لأبن قتيبة ج1- ص 20).
هكذا كانت المرأة المسلمة تمارس موقفها السياسي تأييداً ورفضاً حسب إرادتها وقناعتها..
وفي هذا العصر حيث يحتجب عنا الإمام القائد المهدي المنتظر (عليه السلام) للمرأة المؤمنة حريتها الكاملة في اختيار القائد الديني، الذي تعتبره مرجعا لها وحاكماً شرعياً بالنيابة عن الإمام (أرواحنا فداه).. ضمن المواصفات والشروط الإسلامية التي يجب توفرها في المرجع القائد ولا يصح لزوجها أو لأبيها مثلاً أن يجبرها على تقليد مرجع معين لا تؤمن هي بجدارته وكفاءته..
وحينما تلاحظ المرآة فساداً أو انحرافاً في جهاز الحكم وإدارات الدولة، فعليها أن تفضح هذا الانحراف، وتكشف هذا الفساد.. وتسعى لإصلاحه وتقويمه بمطالبة القيادة العليا ووضعها أمام واجبها ومسؤوليتها.. وهذا داخل ضمن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ولنقف الآن أيها القاريء الكريم والقارئة العزيزة وقفة إكبار وتقدير أمام صفحة بطولية رائعة من صفحات تاريخنا الإسلامي المشرق، حيث كانت المرأة المؤمنة تمارس دورها وتتحمل مسؤوليتها في مواجهة الفساد والانحراف في جهاز الحكم والسلطة..
إن بطلة هذا الموقف (سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمداني) من سيدات نساء العراق. وكانت تعيش في إحدى ولايات العراق في عهد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلما رأت من سيرة الوالي (أمير المنطقة أو المحافظ) انحرافاً عن خط العدالة الإسلامية وإساءة لجماهير الشعب.. ركبت دابتها وقصدت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لتشكو له انحراف الوالي، وتشرح له أوضاعه.. ولم ترجع إلا ومعها قرار صارم بعزل الوالي المنحرف..
وبعد أن تسلط معاوية ابن أبي سفيان على رقاب الأمة وتسلم أزمة الحكم بالقوة والإرهاب، فرض على الولايات والمناطق ولاة قساة منحرفين، مؤهلهم الوحيد الولاء والتأييد لسلطة معاوية.
وكانت هذه المرأة المؤمنة البطلة سودة بنت عمارة تلاحظ سلوك الوالي على منطقتها، فتراه ظاهر الانحراف، يغلب عليه الجور والفساد..بيد أن شخصيات المجتمع يرهبون بطش معاوية ويخافون سطوته.. فهل تسكت سودة وتغض النظر عن هذا الانحراف الواضح في جهاز الحكم المتمثل في جور الوالي وقسوته؟ وهل سيسمح لها ضميرها ووجدانها بالتفرد على شقاء مجتمعها ومعاناته؟
كلا، فقد تحملت مسؤوليتها وهبت لأداء دورها وواجبها وتجشمت عناء السفر إلى معاوية لتشكو إليه هذا الوالي الظالم، وهذا الجور القاسي.. رغم أن لها في الماضي دوراً سياسياً وإعلامياً بارزاً ضد معاوية أثناء حرب صفين.. وهذا ما لم ينسه معاوية بعد..
فحينما دخلت على معاوية وسلمت عليه عرفها وذكر دورها المناويء له في صفين الذي أوغر قلبه عليها فأسرع يجابهها قائلا: ألست القائلة يوم صفين؟ تشجعين أخاك على قتالي:
شمر كفعل أبيك يا ابن عـــمـــارة يوم الطعـــــان وملتــــقى الأقران
وانصر علياً والحسين ورهطـــــه واقصـــد لهنـــــد وابنها بهــــوان
إن الإمـــــام أخـــــا النبي محـــمد علم الهدى ومنــــــارة الإيمــــان
فقد الجيــــوش وسر أمــــام لوائه قدما بأبيض صــــــارم وسنان؟؟
وانصر علياً والحسين ورهطـــــه واقصـــد لهنـــــد وابنها بهــــوان
إن الإمـــــام أخـــــا النبي محـــمد علم الهدى ومنــــــارة الإيمــــان
فقد الجيــــوش وسر أمــــام لوائه قدما بأبيض صــــــارم وسنان؟؟
سودة: أي والله لقد قلت ذلك وما مثلي رغب في الحق أو اعتذر بالكذب.
معاوية: فما حملك على ذلك؟
سودة: حب علي واتباع الحق.
معاوية: (متشمتا) فو الله ما أرى عليك من أثر علي شيئاً.
سودة: مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي وإعادة ما مضى..
معاوية: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك.
سودة: صدق فوك لم يكن أخي صغير المقام ولا خفي المكان كان والله كما تقول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به وكأنه علم في رأسه نار
معاوية: صدقت كان ذلك.
سودة: بالله اسأل إعفائي مما استعفيت منه (تعني تذكار الأحداث الماضية).
معاوية: قد فعلت فما حاجتك؟
سودة: إنك أصبحت للناس سيداً ولأمرهم متقلداً والله سائلك عن أمرنا وما افترض من حقنا ولا يزال يقوم علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك فيحصدنا السنبل ويدوسنا دوس البقر ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة.. هذا بسر ابن ارطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فأما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا ففرقناك.
فتأثر معاوية من كلامها واعتبره جرأة على الحاكم وتهديداً للسلطة فقال لها: أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأبعثك إليه ينفذ فيك حكمه؟
فأطرقت إلى الأرض وهي باكية العين، حزينة القلب ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على جسم تضمنه قــبر فأصبح منه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا
معاوية: ومن ذلك؟
سودة: علي بن أبي طالب.
معاوية: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟
سودة: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين فأتيت علياً (عليه السلام) لأشكو إليه ما صنع، فوجدته قائماً يصلي فلما نظر إلي انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف: لك حاجة؟ فأخبرته الخبر فبكى ثم قال:
(اللهم إنك أنت الشاهد عليّ وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك) ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب فكتب فيها (بسم الله الرحمن الرحيم، قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ. ، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في بديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام) فأخذته منه، والله ما ختمه بطين ولا حزمه بحزام..
فانبهر معاوية وتعجب من هذا العدل والإنصاف وقال:
اكتبوا لها بالإنصاف والعدل لها؟ فانبرت إليه قائلة إلي خاصة أم لقومي عامة..
معاوية: وما أنت وغيرك؟
سودة: هي والله إذن الفحشاء واللوم إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا فأنا كسائر قومي.
معاوية: اكتبوا لها ولقومها بحاجتها(أعلام النساء 2/663).
وسودة هذه البطلة نموذج واحد لها مثيلات كثيرات في تاريخنا الإسلامي من النساء اللاتي مارسن موقفا سياسيا تجاه السلطة وقضايا الحكم..
وهكذا يبدو بوضوح الدور الكبير الذي رسمه الإسلام للمرأة المؤمنة في المجتمع..